“COVID-19″داء السيليكوز ، عامل مؤثر رئيسي لمرض

رحلة ممتهني صقل الحجارة في مدينة أطعمت أبناءها الصخر

تكوت، السيليكوز، الموت، ثلاثية تلازمت طويلا في قرية هادئة تقع على مرتفعات جبال الأوراس بباتنة، يقول عنها الكثيرون إنها مدينة أطعمت أبناءها الصخر، ويقول أبناؤها إن “تكوت بلاد الحجارة والموت “. قبل أيام أسلمت روح الضحية ال 111 لبارئها، كان شابا كغيره من الضحايا لم يتجاوز ال 33 سنة من العمر قضى متأثرا بالسيليكوز، أو داء التكلس الرئوي، لا يهم المواطنين في تكوت أية تسمية يحملها الداء بقدر ما يهمهم أنه يؤدي إلى الموت، وقبله بأيام توفي آخر بالداء نفسه وقبله قضى السيليكوز على آخر.

ويقدر الأطباء أن القائمة لا تزال مفتوحة من خلال الحالات المشخصة إلى حد الآن وعدد الحالات المحالة إلى التنفس الاصطناعي، كآخر مرحلة من وجهة نظر علمية في حياة مريض السيليكوز، في وقت تتزايد فيه أصوات المواطنين بتكوت مع كل جنازة لضحية جديدة بوقف عدوان الصخر على أرواح الشباب.

سطوة الفقر وصولة الصخر

لا يفرق شباب تكوت بين البطالة والموت، فالفقر والبطالة موت آخر، والجبال الصخرية المترامية على حواف المدينة تعطي أيضا خيارا آخر للموت إما بالفقر أو بالصخر، لذلك كان خيار الكثير منهم “فلنلذ بالصخر من الفقر ونمت تباعا”.. حيث أجمع كل من تحدث إلينا عن وحش السيليكوز بتكوت على أن هذه البلدية التي تقع على بعد 90 كلم من عاصمة الولاية تعاني بدورها فقرا مدقعا في المشاريع التنموية وكل ما من شأنه أن يخلق فرص عمل قارة أو مؤقتة للشباب يقيهم شر البطالة المتفشية، هي كلها أسباب اجتمعت لتدفع بالشباب فرادى وجماعات لامتهان “حرفة الموت” كما تسمى.. وهي التسمية التي تختفي في الغالب وراء مسميات كثيرة أهمها أن “خدمة الحجرة” تدر الملايين على أصحابها شهريا، وهو المسمى الذي يقنع به محترف صقل الحجارة نفسه بالانضمام إلى قوافل الضحايا، وهو غالبا لا يريد الاعتراف بأن مصيرا غير الحياة ينتظره وراء هذه الحرفة، رغم أنه يشارك بين الفينة والأخرى في تشييع جنائز زملاء الحرفة القاتلة. يقول من تحدثنا إليهم في هذا الشأن إن البطالة وانعدام لقمة العيش لا تعطي صاحبها متسعا من التفكير بمنطق أو تقدير العواقب بقدر ما يهمه إطعام صغاره واقتناء الحليب والخبز لهم وألبسة تقيهم برد تكوت القارس.. وأضاف محدثنا أن هذه قاعدة عامة تدفع بالشباب إلى احتراف هذه المهنة…

أرواح 111 ضحية تزين واجهات منازل الكبراء..

تتوفر مدينة تكوت على مقالع كبيرة لاستخراج الصخور من الجبال الصخرية التي تكونت عبر حقب مختلفة يقدرها الجيولوجيون بحسابات وتقنيات معينة، غير أن شباب المنطقة لا يرى فيها سوى طريقة مميتة للعيش، حيث يقوم محترفو صقل الحجارة باستخراج القوالب الصخرية من الجبال وسط ظروف خطرة جدا.. باستعمال آلات تقليدية وأخرى كهربائية، وهي القوالب التي يقومون فيما بعد بصقلها وتشكيلها وفق منحوتات معينة تتوافق وذوق طالبيها من أصحاب المنازل الفخمة كالمسؤولين وكبار التجار والمقاولين الذين بلغ بهم الترف حد تزيين منازلهم بالصخر مقابل عشرات الملايين التي تستهوي الشباب البطال في تكوت وتجعلهم ينتشرون في مختلف الولايات وينتظمون في ورشات لتشكيل الصخور وتوضيبها حسب الأذواق، ومن ثم القيام بترتيبها في واجهات المنازل من الطوابق الأرضية إلى الطوابق العلوية في ظروف أكثر خطرا من الأولى.. وقد أشارت مصادر طبية من مستشفى الأمراض الصدرية بباتنة إلى أن استنشاق هؤلاء الشباب وبصورة دائمة للغبار الدقيق المتطاير أثناء عملية الصقل وبعد أن يتغلغل في الرئتين يؤدي إلى صعوبة كبيرة في حركة الدم الأمر يسبب صعوبات في التنفس ينجر عنها إصابتهم بداء خطير وقاتل هو السل الرئوي الحاد “نيوموكونيوز”، والمعروف بالسيليكوز أو داء التكلس الرئوي، وهو آخر محطة مرضية في حياة المصاب.

ورشات مملوءة..وقبور مفتوحة

وأمام هذا الوضع أكد أحد الكهول القاطنين بتكوت أن ورشات صقل الحجارة لا تزال تعج بالكثير من الشباب رغم إدراكهم لمخاطر المهنة.. ولسان حالهم يقول “لا نملك بديلا آخر عن الموت”.. إذ ورغم الحملات التحسيسية التي تقوم بها بعض فعاليات المجتمع المدني بين الحين والآخر مدعومة بأطباء ومختصين، لا تزال مهنة الموت تستقطب عشرات الشباب من مختلف مشاتي البلدية، وحتى من البلديات المجاورة مثل إيشمول وآريس وإينوغيسن، وهو ما يؤكد أن قائمة الضحايا لا تزال مفتوحة في ظل الغياب التام لكل الآليات الجدية لوقف زحف السيليكوز، رغم المطالب التي رفعت إلى المسؤولين والاحتجاجات التي قام بها أسر الضحايا من متوفين وممارسين.. حيث طالبوا بإيجاد البديل بخلق مناصب عمل في مدينة تتوفر بها كل المقومات المنتجة في الفلاحة والصناعة والسياحة..

أكثر من 900 ممارس لصقل الحجارة و90 مصابا بالسيليكوز

أجبر الشباب على نحت الحجر

قدرت بعض الإحصائيات التي تحصلنا عليها لدى بحثنا في الموضوع أن هناك أكثر من 900 ممارس لمهنة صقل الحجارة عبر قرى بلديات باتنة، من الذين يتركون لأجلها ديارهم وأهاليهم ويحجون إلى الولايات الكبرى خاصة العاصمة، وهران، عنابة، عين الدفلى، بجاية، قسنطينة… إلخ ليمارسوا هذه المهنة التي لم ينج منها أي مصاب إلى حد الآن خاصة أن أكبر الأطباء فشلوا في إنقاذ حياة المرضى وكل ما يمكن تقديمه لهم هو تخفيف الألم وإطالة عمر المريض لأسابيع أوشهور وهذا في أحسن الأحوال، خاصة بعد أن تبين للأطباء أن الأدوية الموجودة ليس لها مفعول كبير لعلاجهم بعد تسرب كميات كبيرة من الغبار الدقيق إلى الرئة كونهم لم يتخذوا الاحتياطات اللازمة لذلك، وهذا رغم التحذيرات الجادة والمستمرة التي يأمر بها الأطباء الذين نقلوا تخوفاتهم الكبيرة من أن يتضاعف عدد الضحايا في هذا العمل، وهو مصير حتمي حسبهم في ظل وجود العديد من الحالات المصنفة في خانة الميؤوس منها، وحالات أكثر عددا مصابة بأعراض السيليكوز وقد بلغ عددها 90 مصابا حسب بعض التقديرات.. ويجب التنويه بأن شباب تكوت المصابون بالسيليكوز لم يعودوا يثقون في العلاج في الجزائر، حيث إن المرض يلازمهم لشهور طويلة دون إيجاد علاج مناسب له، حيث رويت لنا قصة ضحية مارس المهنة مدة 07 سنوات، فتمكن منه المرض وقصد العيادات المتخصصة، فنصحه أحد الأطباء باستعمال الأكسجين وبينت التحاليل التي أجراها في مستشفى آخر انخفاض نسبة الأكسجين في جسمه، ما نفاه أحد أشهر الأطباء في تونس، وقد نصحه الطبيب باتخاذ الحيطة من أن يصاب بنزلة برد وممارسة نشاطه كأي شخص عادي.

أرامل وأيتام.. السيليكوز قتل الموتى والأحياء

إن الزائر لمدينة تكوت والمطلع على الوضعية التي يعيشونها ضحايا السيليكوز، ووضعية الأسر التي قضى أصحابها بالداء اللعين يقف على وضع إنساني واجتماعي مزر للأرامل والأيتام الذين يتزايد عددهم بتزايد الضحايا الذين يخلفون وراءهم ضحايا من نوع جديد، لا يملكون من الحياة سوى اسمها حسب أحد المواطنين، الذي اعتبر الأيتام والأرامل في عداد الأموات، بل أصبح الكثير منهم يتمنى الموت على مكابدة ظروف الحياة القاسية والعجز عن تحصيل لقمة العيش والاعتماد على صدقات المحسنين الذين يعطون أو يمنعون. كما يوجد العديد من العائلات التي أقعد معيلوها بسبب المرض وتحولوا إلى حمل على عائلاتهم التي تناشد المسؤولين على اختلاف مستوياتهم ورتبهم التدخل العاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في غياب التكفل الاجتماعي والصحي والمادي، حيث أكد لنا كل من التقيناهم، حاجتهم إلى خزان الأكسجين بالمركز الصحي أو توفير إعانة مالية لشراء أجهزة فردية لتوليد الأكسجين لمرضى السيليكوز في هذه المدينة.

الضحايا الذين يعانون في صمت

وكدليل على أن هذا الداء بدأ على انتشاره يقتحم أمورا تتعلق بالموروث الثقافي والتقليدي لسكان منطقة تكوت، فقد أصبحت الشهادة الطبية مطلوبة للمتقدم لخطبة فتاة من المنطقة، حسب ما أكده لنا احد القاطنين في تكوت الذي أضاف أن الأسر باتت تخاف على بناتها من الفاجعة ومن مكابدة الظروف القاسية بعد وفاة المعيل. لذلك فعلى الراغب في الزواج أن يستظهر شهادة طبية تثبت عدم إصابته بالمرض، أو أعراضه الناتجة عن ممارسة المهنة القاتلة، التي أصبحت ممارستها سببا قويا عند الكثير من الأسر لرفض التزويج. وأضاف محدثنا أن الحياة البسيطة لسكان تكوت وما يميزهم من كرم أخلاق وجود يجعلهم يرفضون حياة الثراء لبناتهم إن كانت على حساب صحة وحياة الشريك، وما يلي ذلك من مآس اجتماعية لا متناهية. وبالمقابل لهذا روى لنا المتحدث عن الكثير من الحالات لأشخاص تخلت عنهم زوجاتهم بعد علمهن بإصابتهم بهذا الداء وعجزهم عن الاستطباب أو العمل لإعالة أسرهم، وهو واقع آخر من مخلفات هذا الداء اللعين.

أخذت مهنة الموت نصيبا من اهتمام الفنانين بباتنة من مسرحيين وشعراء وموسيقيين. وقد سعى الكاتب المسرحي العربي بولبينة إلى تجسيد المأساة على الركح في مسرحية “لوشام” التي أدى أدوارها كل من بوزيد محي الدين وصليحة بن براهيم وفريد حوامد. وقد كشفت المسرحية أغوار الحكاية بين الحجرة وشباب تكوت الذي يخرج لعصر الحجر واستخلاص الحلم، غير انه لا يرجع سوى بالموت. كما قام المرحوم صالح لونيسي بتأدية الكثير من الأغاني عن واقع ممتهني صقل الحجارة ومأساة أيتامهم وأراملهم، وهو الألبوم الذي لاقى رواجا كبيرا بين كل من عايش المأساة من بعيد أو من قريب. واللافت للانتباه أن الفنان صالح لونيسي المعروف في المنطقة قضى نحبه منذ ثلاثة أشهر تقريبا متأثرا بهذا الداء اللعين ليكون الرقم 100 في قائمة الضحايا المفتوحة.

مطالب تتلوها مطالب فهل من مجيب؟

مع تفشي ظاهرة الموت الناتج عن مهنة صقل الحجارة، بادرت خلال الأشهر الأخيرة الكثير من الجمعيات والمهتمين وحتى الشباب الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى المطالبة بوضع مخطط استعجالي من طرف السلطات بولاية باتنة والمركزية بالعاصمة من أجل وقف مهنة الموت أو على الأقل توفير أدوات وأجهزة حديثة تقي ممارس هذه المهنة من خطر الموت أو حتى إنجاز مصحة مختصة في الأمراض التنفسية بالمستشفى الجديد الجارية الأشغال به للتكفل بالمرضى. فيما رفع مؤخرا مهتمون لائحة من المطالب إلى الجهات المعنية وأهم ما تضمنته هو اعتبار ضحايا السيليكوز ضحايا مأساة وطنية، واستفادة الشباب الذي يشتغل في مهنة الموت من قروض أونساج وكناك دون فوائد ربوية لتشجيعهم على ترك المهنة وتغيير النشاط، وإعادة فتح مصانع أريس ومركز الصناعات التقليدية ببلدية غسيرة وفتح وحدات صناعية بمشونش وتكوت وأريس واشمول وكامل مناطق الاوراس كل منطقة حسب طابعها الإنتاجي لخلق مناصب شغل لشباب الأوراس وابتعادهم عن مهنة الموت، مع تجريم الأثرياء ممن يشيدون فيلاتهم وقصورهم بتلك الحجارة القاتلة، والتكفل ماديا بكل المرضى وإحصائهم ويكون التكفل بالعلاج داخل وخارج الوطن وشراء الدواء والأكسجين وتخصيص أجرة شهرية تسمح لهم بالتكفل بمصاريفهم الخاصة، كما تضمنت اللائحة أيضا إعادة ترميم قلاع الأوراس وكل المناطق السياحية من أجل خلق فضاء إنتاجي لشباب المنطقة، وهي الحلول التي يرى أصحابها أنها كفيلة بوضع حد لهذا الداء القاتل.